مفيد الغيلاني
الاربعاء 1 فبراير 2017 الساعة 03:25
اللواء الركن، فضل حسن، الرجل الألف؟!!
مفيد الغيلاني
 
على صفيح الذكريات الساخنة والمشتعلة جدا في زمن أكلت فيه الحرب جل ذكرياتنا الجميلة، ولم تترك لنا سوى ذكريات الدمار والقتل والتشرد والنزوح، وسط ذاكرة مثقوبة بالوجع الحقير والمستفز، لم تسطع الحرب بكل وقاحتها أن تمحوها من ذاكرتي المرهقة بفهارس الفراغ، عثرت على ذكريات رجل لن أبالغ إن قلت بأنه الرجل الألف. 
يقول فولتير: يولد الرجال متساوين مهما اختلف تاريخ ميلادهم، لكن الفضائل تصنع الفرق بينهم.
أجزم يقنا أنك قد أحدثت فارقا يتجاوز المجرات بفضائلك العظيمة، وأخلاقك الراقية، التي لم تمحها سنين القهر والحرب والعبث وتضاريس الألم القاتل.
لن اطيل الكلام، فمهما قلت تظل حروفي عاجزة عن رسم جزء من حياة بطل أجزم انه لا ولن ولم تنجب اليمن مثله، وإن حلف الزمان لايأتين بمثله سنقول له حنثت يمينك يازمان فكفر، إنه الرجل الألف، والقيادي المحنك والمجاهد الشجاع، عم الشهيد وخال الشهيد وصهر الشهيد، كل مرافقيه إما سقطوا شهداء أو جرحى،  وهو نفسه جرح مرتين، إنه اللواء الركن فضل حسن قائد قائد المنطقة العسكرية الرابعة وأحد القيادات العسكرية التي شاركت في الحروب الست ضد الحوثيين، حيث كان قائداً للواء 131 مشاة في كتاف صعدة.
 
كتاف الذاكرة المسروقة من فهارس الصدف الجميلة، كان القدر المعتق بالأماني الباساقات بطعم رمان مران الذي لازال معتقلا بجبة سيدا في الكهف يوزع الموت المغلف في سنتيان العهر دون دفع مسبق غير الصراخ، قد جمعني برجل كنت أخاله من اول وهلة أنه لا يصلح إلا أن يكون زعيما للمدينة الفاضلة التي تخيلها افلاطون في كتاب الفلسفة الذي قرأته في الصف الثالث الثانوي قبل قدومي اليه بعامين، كانت أمنيتي أن كون صوت الجيش الذي كنت أتوقع انه سيهزم أكبر امبراطورية على وجه الأرض ثم تبين لي بعد ذلك أنه لم يكن سوى مقلب كبير.
 
لم يكتب لي القدر أن اكون جنديا تحت لوائه أنذاك، فبسبب الخلاف بينه وبين اركان حرب اللواء 131 مشاه في كتاف صعدة، تم ترحيل الجميع إلى مقر الفرقة الاولى مدرع بصنعاء، من أجل ترقيمهم، وكنت ممن اختار الرحيل المر وعدم الترقيم، فلا قيمة للإنضمام إلى أي لواء ليس قائده فضل، ولانكهة للسلك العسكري بدونه.
 
ظلت صورة اللواء الركن فضل محمد حسن، محفورة في ذاكرتي المهترئه والممزقة بحوادث الزمان خالدة، فاللواء فضل حسن من لا يعرف سيقول: قائد مُحنّك، وسياسيٌّ فذٌّ. ومن يعرفه سيقول، إلى جانب ذلك: مُعلِّمٌ، ومثقفٌ من طراز نادر. شخصية من تلك الشخصيات النادرة التي تميزت بدماثة الاخلاق وحنكة القائد، والتي لا يملك المرء إلا أن يتوقف عند دهائها، ولطافة قولها وحزْم فِعْلها.
 
عندما قرأتُ خبر انضمامه لثورة 11 فبراير قلتُ لزملائي الذين كنتُ جالسًا معهم إن مَن وصف اللواء فضل حسن بصمام أمان صعدة فقط فقد أخطاء، إنه صمام أمان اليمن بكاملها.
 
ليتني استطعتُ أن أحكي لهم عن مواقفه العظيمة على مرّ سبعة حروب، كان فيها صمام التوازنات العسكرية والفكرية والسياسية في اليمن، ورَجُل السّلام الذي تحققت بفضل جهوده بعد فضل الله تعالى توافقاتٌ بين أطراف لطالما تناحرت واختلفت لسنوات طويلة. 
 
لقد تعلمتُ من هذه القامة العظيمة أشياءَ كثيرة، من أجملها تواضعه الجَمّ، وحرصه على ألا يعرف الناس إنجازاته حتى يبقى عمله خالصًا، وهو ما يتعارض مع شخصية الجنرالات الذين يسعون للظهور الإعلامي، والمشاركة في كل حدث، والتباهي بإنجازاتهم حتى وإن كانت صغيرة. إلا أن مِن أكثر ما كان يسعد اللواء فضل أن يُنجز مهمة ما، ثم لا يعلم أحد أنه كان مهندسها وأداة نجاحها الحقيقية.
ومما تعلمته منه أيضا الوضوح والصراحة المُطْلقة، فعالم السلك العسكري مليء باللف والدوران والمجاملات التي تقع في غير محلها، إلا أن اللواء صاحب الأدب الجَم، كان صاحب مواقف واضحة مع نُظرائه، يقول ما يُمليه عليه ضميره ومصلحة الوطن، ولذلك، كانت كلمته بمثابة اتفاقية دولية، وكانت صراحته تدفع حتى بمن يختلفون معه في الرأي للاتصال به وقت الأزمات طلبًا للمشورة والنّصح.
أما عن الوقت فلقد كان اللواء فضل حارسه الأمين، لا يُخلفُ موعدًا، ولا يُضيع اجتماعًا في كلام لا ينفع. يسعى لإنجاز الكثير في وقت قليل، فتراه يفطر في محافظة، ويتغدى في آخرى، ثم يتناول عشاءه في سيارته عائدًا إلى معسكره. 
 
كان يُحرج الجنرالات بهمته العالية، ونشاطه المُتّقد، فلا يملكون إلا أن يحاولوا مجاراته، فينجحون تارة ويفشلون في أخرى، فلقد رفع من معايير السلك العسكري، وانتقل بفكرة العمل العسكري من كونه مَهمة إلى رسالة يحملها المرء في حياته، للحفاظ على مصالح بلاده وتنميتها.
 
سألني أحد الأصدقاء أن أصف اللواء فضل في كلمة واحدة، فقلتُ له «الهِمّة». فلم أرَ قائدا عسكريا قط بهمّته العالية، وكان النشاط والعمل الدؤوب من أهم صفاته وأجملها. يقول المتنبي: 
لولا المشقةُ سادَ الناسُ كُلَهمُ 
الجودُ يُفقِر والإقدامُ قَتَّالُ 
 
عند ما اجتياحت الميليشيات الانقلابية محافظة عدن، كان اللواء فضل حسن، قد شكل اللواء الأول «حزم»، وحينما سقط الشهيد علي ناصر هادي في الممداره رفع اللواء فضل محمد حسن راية المنطقة العسكرية الرابعة، والى جانب جعفر محمد سعد استكمل معركة تحرير عدن، من البريقاء الى كرش ولن يتوقف حتى وضع قدمه عند أخر لبنة من معسكر قاعدة العند، وكنت أقول حينها ما ضر فضل ما فعل بعد اليوم، إلا أن هناك أصوات نشاز لا تزال تدس راسها بالتراب وتصدر أصوات بلهاء لاترقى إلى مستوى المنطق لدى طفل في الثالثة من عمره، تشكك في إيمان اللواء بقضيته الجنوبية التي يرى فيها اللواء انها مشروع حياة لن يتنازل عنها ولو كلفه الأمر روحه فداء لقظيته.
 
عاد اللواء فضل بعدها ليقف على الديار ولن يبكي الاطلال بل يستردها بفوهة بندقيته التي لا تقهر، في كتاف ومنفذ «البقع» بمحافظة صعدة، وحقق إنتصارات عريظة، وهاهو اليوم يحتسي قهوته في ميناء المخأ، ليقول لأهله وأصداقائه في تعز، قضيتنا واحده وهدفنا واحد، نموت بكرامه أو نحيا أحرار.