عبدالملك الصوفي
الجمعة 16 يونيو 2017 الساعة 00:53
تعز والجرح النازف
عبدالملك الصوفي

 

حينَ كنتُ مسافراً الى مدينة الاسكندرية وجدت صوت البحر .. قد أنساني متاعب الرحلة وأحيا في داخلي هجمات القراصنة وتجار الحروب والمتشدقين لاحتساء الدماء، في مدينة تعز.

 وَيَا طالما جلستُ في بيت من بيوت المدينة القديمة 

أستمع بشغف طفولي غامر، إلى الزعماء السياسيين وهم يخطبون في الناس بضرورة المقاومة من طرف، وحتمية انتصار جماعة الحوثي على أبناء "تعز" من طرف آخر.

هكذا كانت توضع خطط الإضرابات والمظاهرات ووسائل المقاومة

بينما كُنّا من وراء الأبواب نسترق الهمسات ولا نكاد نفهم منها شيئاً، ولكني حين رأيتُ قائمة الشهداء، وعساكر الحوثيين ، وشباب المقاومة في ساعات الفجر يتسابقون إليّ سيارة الإسعاف...

 

أدركت مخيّلتي حينذاك أنهم يصنعون للجرح فصولاً من الأنين  الذي لا دموعَ له ، ومواسمٌ للكلام الذي لا صوت له...وأيام للحماقات المتشابهة ... وأُخرى للندم.

ثم إن الحديث عن "تعز" والتأمل في حاضر المدينة ومأساة أبنائها أصبح شيئاً مرفوضاً من جميع الأطراف ، حيثُ باتت "مدينة تعز"  (ك )طفلاً غير شرعي، ومادة كالمواد المتفجرة ممنوعة من التداول، بل ويعتبر هذا التأمل، بحد ذاته خروجاً عن مصالح الشخصيات السياسية السابقة.

وتأكيداً على إستباقية ماتم صياغته في " مشروع خارطة الحل في تعز" ، هي تحمل شهادة حسن المقدّمة، وحكماً بالبراءة وصدق النوايا، على القائمين في تطبيق  تلك المبادرة .

تسعون بالمئة من التقارير الصحفية التي اقرأوها تطرح ذات السؤال الذي أصبح بالنسبة لي صداعاً يومياً لا يحتمل :

لماذا اختيرت تعز محوراً رئيسياً لحرب اليمن، دون غيرها؟

ولماذا تختزل قضية تعز في إطار شخصيات سياسية سابقة ؟

ان طرح السؤال بهذا الشكل يدلّ على أن طارحيه لا يعرفون شيئاً عن تعز، إنهم يتصورون أن ثقافة المدينة  عنصر مضاد للوطن ومتناقض معه .. 

وبالتالي فإن كلّ كتابة عنها، أو محاولةٍ  لطرح وصياغة مبادرات تهدف إلي التخفيف عن مأساة أهل  المدينة، والكشف عن ستائر أحزانها، ومسح التراب المتراكم على وجهها، والصلاة والسلام على أرواح الشهداء، يعتبر عملاً ضد الوطن.

وَمِمَّا يثير الدهشة أن خارطة الطريق التي جائت بها قيادات سياسية مرموقة في تعز، سعياً منهم إليّ رسم رؤية واضحة لإحلال السلام وفتح المعابر، وفك الحصار، وتبادل الأسرى والمعتقلين، وتشكيل إدارة انتقالية للمحافظة لفترة لا تتجاوز العامين، وانتخاب الهيئات التشريعية والتنفيذية ... 

كل تلك الإجراءات  (على سبيل المثال)، كانت ولا زالت تبدو بمثابة  "خطة استراتيجية"  لتنظيم ورسم الحدود مابين دولة واُخرى، وإستعادة الأراضي التي ظلت تحت الحصار الاسرائيلي !! لفترة من الزمن !! وكأننا لا نعيش في وطن واحد، تحت راية واحدة 

كان من الأجدر بِنَا عدم أرتهان الشأن  اليمني إليّ الخارج، في سابقة لم تشهدها الساحة اليمنية على هذا النحو من الإرتهان. 

تعز لا تحتاج إليّ مثل تلك المبادرات على  قدر ما نحتاج  نَحْنُ أن نتعامل مع الوطن كنسيج اجتماعي واحد، وان نتعامل مع المؤذن لا المئذنة، ومع الصفحات لا الكتاب، ومع المسافرين لا مع البحر، وان نتعامل مع الله لا مع المذهب.

هكذا نستطيعُ كسر الحدود، وتضميد الجراح وأحياء النسيج الاجتماعي مجدداً، لنقف على تلك الشرفة الواسعة لنحتضن الوطن ونتوحّد معه، مادام الوطن مزروعاً في نفوسنا، حَربْةٌ من "البرونز المشتعل"، فمن الصعب عليه أن يكتشف الحدود الحقيقة للحربة، والحدود الحقيقة للطعنة، لأن القلب والحربة أصبحا شيئاً واحداً في جسد المواطن.

إذاًحافظوا على الوطن، والمواطن وتقوا الله فيهم، وتركوا للحلم متسعاً من الأفق، فالوطن رقصٌ بكلَّ أجزاء النفس، وبكل طبقاتها الظاهرة وبكل أحلامها الممكنة وغير الممكنة.